Tuesday, June 23, 2009

الأزمة الإيرانية وتوازنات المنطقة

مقال رائع عن تأثيرات الأزمة الإيرانية ل : ياسين عز العرب

لا شك أن الاهتمام العالمى الاستثنائى بدراما الانتخابات الإيرانية ليس مجرد فضول دولى لفهم الحيوية التى يبديها المجتمع الإيرانى برغم ما يبدو عليه من وقوعه تحت أسر سلطة دينية تقليدية مادام استسهل المراقبون (خاصة فى الغرب) الإشارة لها لتصنيف إيران ضمن النماذج التقليدية للنظم الشمولية، ونفى أى مجال للحراك السياسى أو الاجتماعى فيها.
الاهتمام بما تفرزه صناديق الاقتراع فى إيران هو جزء من سؤال يتردد فى مراكز القرار الرئيسية فى المنطقة والعالم حول دور إيران المتمدد فى المنطقة، وترقب لتأثير «الأزمة الانتخابية» على الصفقات التى ينتظرها العالم منذ وصول إدارة أوباما للحكم، ويتوقع أن ترسم التوازنات الاستراتيجية فى منطقة تمتد من باكستان إلى اليمن، وتضم فى آن واحد «خزان نفط» الكرة الأرضية، وبؤرة من أهم بؤر الصراع الدولى فيها.
بهذا المعنى، لا تصبح القضية من سيربح الانتخابات الإيرانية؟.. وهى على أى حال قضية باتت شبه محسومة لصالح نجاد، وإن بقى التساؤل حول الثمن الأمنى والسياسى الذى سيدفعه النظام الإيرانى لتمرير هذا الفوز وإسكات (أو التفاهم مع) معارضيه.
السؤال الأخطر، من زاوية التوازنات الإقليمية والدولية فى المنطقة، يصبح: كيف ستؤثر الانتخابات على قدرة إيران على إدارة المفاوضات المرتقبة حول دائرة نفوذها الاستراتيجى.
ينبغى ابتداء الالتفات لتطورين مهمين شهدتهما إيران فى الفترة الأخيرة:
أولا: تعرض النظام الإيرانى لهزة سياسية كبرى، بصرف النظر عن المعارك والتسويات التى ستشهدها الأيام المقبلة لتحديد ثمن تمرير فوز أحمدى نجاد بدورة رئاسة ثانية. فالمؤكد هو أن جميع المراكز الرئيسية لصنع القرار فى النظام السياسى الإيرانى قد تلقت ضربات موجعة فى هذه الأزمة، وستحتاج لفترة من الوقت لامتصاص آثارها.
رئيس الجمهورية سيحكم لفترة رئاسية قادمة وقطاع واسع من الناخبين الإيرانيين (بالإضافة لعدد لا يستهان به من الدول الغربية التى يطمع النظام الإيرانى لعقد صفقة معها فى المرحلة المقبلة) يطعن فى شرعية انتخابه.
رئيس مجلس الخبراء هاشمى رافسنجانى تعرض فى خضم «دراما الانتخابات» لفتح ملف اتهامه بالفساد، ومن قبل رئيس الجمهورية شخصيا لتبدأ معركة «كسر عظم» مفتوحة بينهما.
وحتى المرشد الأعلى للثورة على خامنئى تعرضت سلطته «المطلقة» لتحدٍ غير مسبوق، إذ رفض المرشح «الخاسر» لانتخابات الرئاسة الانصياع لطلباته المتكررة بقبول هزيمته وإغلاق ملف الانتخابات والاحتجاج الشعبى على نتائجها.
ثانيا: بالتوازى مع الضربات التى تلقاها أركان الحكم فى إيران فى هذه الأزمة، يأتى الضغط الأمنى / السياسى الذى مثلته سلسلة التفجيرات والأعمال الإرهابية فى محافظة سيستان / بلوشستان فى الجنوب الشرقى لإيران، حيث يتقاطع الصراع المذهبى والعرقى بين سكان الإقليم «السنة / البلوش» ونخبة الحكم «الشيعية / الفارسية».
مع الصراع الأمنى لمثلث الإرهاب وتهريب المخدرات الأشهر فى العالم (يقع إقليم سيستان/ بلوشستان فى نقطة تماس حدود إيران مع كل من أفغانستان وباكستان)، والصراع الدولى حيث يمكن اعتبار هذه المنطقة خط تماس أمريكيا /إيرانيا ملتهبا، بعكس خط التماس الآخر الهادئ نسبيا بين الدولتين فى العراق.
وإذ تتزامن الأزمة الانتخابية، مع الأزمة الأمنية فى الجنوب الشرقى لإيران، وتأتى الأزمتان قبل المفاوضات المرتقبة التى يتوقع أن تستأنف فى سبتمبر المقبل حول ملف إيران النووى (درة التاج فى «المشروع القومى» لإيران) على هامش اجتماعات الدورة المقبلة للجمعية العامة للأمم المتحدة.
والمفاوضات الأهم التى ينتظر أن تبدأ قبل نهاية العام الحالى بين النظام الإيرانى وإدارة أوباما حول حزمة واسعة من الملفات (من قضية السلاح النووى إلى النفوذ الإيرانى فى المنطقة الممتدة من أفغانستان إلى اليمن مرورا بالعراق والخليج والمشرق العربى، وفى القلب منه لبنان وفلسطين)، يصبح السؤال: كيف ستؤثر هذه الأزمات على تلك المفاوضات المرتقبة والحاسمة؟
إجمالا، يمكن القول إن «المشروع الإقليمى» الإيرانى تمدد فى السنوات الأخيرة بالاستفادة من «شراكة غير متعمدة» مع إدارة الرئيس الأمريكى السابق جورج بوش، التى تكفلت بإسداء خدمة جليلة للنظام الإيرانى بإزالة خصومه وإسقاط الحواجز التى تحول دون تمدد نفوذه شرقا (طالبان) وغربا (بعث العراق تحت قيادة صدام حسين).
غير أن المؤشرات بدأت تتزايد على أن هذا المشروع بدأ فى الفترة الأخيرة يعانى من أعراض الظاهرة التى يطلق عليها الخبراء «التمدد الاستراتيجى الزائد»، ويقصد منها التورط فى عدد واسع من الجبهات بما يفوق موارد النظام من ناحية، ويلزمه بالتحرك عبر «خطوط إمداد» طويلة يمكن لخصومه مهاجمتها وضربها.
وفى هذا السياق يشير المراقبون مثلا إلى الضربات التى تلقاها حلفاء إيران فى الانتخابات المحلية العراقية والانتخابات البرلمانية فى لبنان والكويت خلال الفترة الأخيرة.
والتى بدت وكأنها «تقليم أظافر انتخابى» لإيران قبل مفاوضاتها المرتقبة مع الغرب، بالتزامن مع إعادة تنشيط المفاوضات السورية ــ الإسرائيلية غير المباشرة وما قد تؤدى له من إضعاف أحد أهم «خطوط الإمداد» بين إيران وساحات نفوذها فى المشرق العربى.
بالمقابل، تتزايد المؤشرات على أن العقل الاستراتيجى الإيرانى بدأ يدرك مخاطر التورط فى حالة «التمدد الاستراتيجى» ومن ثم بعث فى الأشهر القليلة الماضية برسائل سياسية مهمة حول استعداده لعقد الصفقة المرتقبة ودفع ثمنها المطلوب، وهو تقليص مساحة تحركه الواسعة (من أفغانستان إلى اليمن) مقابل اعتراف غربى بدوره ونفوذه فى منطقة مصالح مباشرة لإيران سترسم حدودها المفاوضات المرتقبة مع إدارة أوباما.
يكفى للتدليل على ذلك التأمل فى دلالات التصريح الخطير الذى أطلقه الرئيس الإيرانى نجاد (المتشدد!!!) حول استعداده للاعتراف بحل الدولتين فى فلسطين، بكل ما يعنى ذلك من ضربة قاسمة لمشروعية ودور حليفى إيران فى فلسطين ولبنان.
أو النظر فى نتائج الاجتماع الذى استضافه نجاد فى طهران وحضره حليفا الولايات المتحدة الآسيويين، الرئيسين الباكستانى آصف زردارى والأفغانى حميد قرضاى، بكل ما يشير له ذلك من انفتاح على تسوية ما لتهدئة خط التماس الثانى بين إيران والولايات المتحدة (بعد أن هدأ نسبيا خط التماس الأول فى العراق).
هكذا، بين الضغوط على النظام الإيرانى لإدراك حدود مشروعه الإقليمى (أزمات داخلية انتخابية وأمنية، إلى انكفاءات فى بعض مناطق النفوذ الإقليمى خلال الفترة الأخيرة) ومؤشرات متزايدة على إدراك إيرانى لهذه الضغوط واستعداد للتفاوض عليها والمقايضة حتى إن اقتضى الأمر «بيع» بعض الحلفاء من ناحية أخرى، يمكن القول إن الظروف بدأت تنضج لحدوث صفقة إيرانية ــ أمريكية قادمة.
ويمكن أيضا توقع أن يقتصر تأثير دراما الانتخابات الإيرانية على وضع ضغط إضافى على المفاوض الإيرانى فى هذه الصفقة. المشكلة هى أن أى صفقة إيرانية ــ أمريكية، مهما كانت شروطها.
ستأتى بالضرورة خصما من مناطق تقع فى صميم الأمن والسيادة للدول العربية (العراق مثلا، أو الخليج، ناهيك عن المشرق العربى)، ترتيب الأوضاع فى أى من هذه المناطق مرشح لأن يتم باتفاق طرفيه الوحيدين هما: لاعب إقليمى بازغ (إيران) ولاعب دولى مهيمن (الولايات المتحدة).
إيران والولايات المتحدة يختلفان فى الكثير، غير أنهما يتفقان فى مبدأ التعاطى مع المنطقة باعتبارها مجرد كتلة جغرافية استراتيجية، مليئة بالموارد ربما، ولكنها بالتأكيد فارغة من مراكز «الإرادة والقرار» التى تجعلها جديرة بالجلوس على موائد التفاوض حول المستقبل.

No comments: